الإمامة في اليمن في مواجهة العثمانيين.. حقائق تاريخية

ملخص البحث

- تركز هذه الورقة البحثية على  تاريخ الصراع بين الخلافة العثمانية والطبقة الهاشمية الزيدية خلال الحكم العثماني الأول والثاني لليمن، وتوضح الدور السلبي للإمامة في مناطق اليمن التي سيطرت عليها، وكيف كانت تسعى جاهدة لتنصيب نفسها كولي أمر المسلمين مستخدمة وسائل عديدة لتحقيق ذلك الهدف بما في ذلك استخدام النظرية الدينية السياسية التي أوجدها الإمام الهادي، والتي تؤكد أن الولاية لا بد أن تكون في البطنين. كما تكشف الورقة كيف كانت الإمامة الزيدية تستخدم النظريات السياسية الدينية لإرساءها في عقول القبائل والبسطاء، ومن ثم يتم إستخدام القبائل لضرب كل من تسول له نفسه المساس بهذه الطائفة السلالية، وبسبب تلك النظريات الثيوقراطية القائمة على العنف وعلى حق السلالة الهاشمية الزيدية الألهي في الحكم فقد دفع اليمنيون والأتراك  أنهاراً من الدماء. بالإضافة إلى ذلك، ستبين الورقة كيف كانت الإمامة تستخدم العنف، وتارة التقية، وتارة الدين لبسط هيمنتها. لم تكن الطبقة الهاشمية الزيدية قوية كي تواجه الخلافة العثمانية. ولذلك، استخدمت القبائل اليمنية لمواجهة الخلافة العثمانية. كانت تؤلب القبائل وتنشر ثقافة مغلوطة في أوساط البسطاء بأن الخلافة العثمانية عبارة عن احتلال يريد الاستيلاء على اليمن بالقوة، مما جعل القبائل اليمنية تثور ضد الخلافة العثمانية’،  وهو الأسلوب نفسه الذي تستخدمه جماعة الحوثي اليوم.

إشكالية البحث

- لم تكن اليمن بعيدة عن الصراع، بل كانت ضحية لصراع الطبقة الهاشمية  الزيدية على الحكم. خاضت الطبقة الهاشمية حروباً  طاحنة سواءً بين الأئمة الزيود أنفسهم  أو مع اليمنيين والعثمانيين من أجل الحكم، وساقوا الكثير من أبناء اليمن إلى محارق الموت، من أجل تثبيت حكمهم على المرتفعات الجبلية في شمال اليمن ولا تزال الطبقة الهاشمية الزيدية تستخدم العنف من أجل الوصول إلى أهدافها السياسية، والدينية، ولو كان ذلك على جماجم الأبرياء و دماء الأبرياء، وما تقوم به مليشيات الإمامة ممثلة بحركة العنف المسلحة الحوثية هو خير دليل على ذلك.  

أهمية البحث

- تكمن أهمية هذا البحث كونه يتناول موضوع هام وهو تاريخ صراع الطبقة الهاشمية الزيدية على الحكم مع الأتراك. كما أن هذه الورقة البحثية تبين وبوضوح  كيف كان العنف ولا يزال هو السلاح الحقيقي والطريقة. الوحيدة للطبقة الهاشمية الزيدية من أجل الوصول إلى الحكم، وما تقوم به هذه الطبقة الهاشمية الزيدية ضد الشعب اليمني ما هو إلا خير دليل على ذلك.

- كما تتجلى أهمية البحث بصفة خاصة كونه يوضح الامتداد التاريخي للعنف الذي تميزت به الطبقة الهاشمية منذ وقت مبكر وحتى كتابة هذا المبحث.  

- كما تبرز أهمية هذا البحث كونه يكشف الحقائق التاريخية لصراع هذه الطبقة مع الأتراك من أجل الحكم وليس من أجل حماية اليمن من الأطماع العثمانية التي كان يروج  لها أئمة اليمن الزيود آنذاك.

أهداف البحث

- كشف الدور السلبي للطبقة الهاشمية في إذكاء الصراع مع العثمانيين من أجل حكم اليمن.

- توضيح الحقيقة الغائبة عن الكثير بخصوص الطبقة الهاشمية الزيدية وكيف كان  الصراع هو السائد في ظل وجود هذه الطبقة في سدة الحكم، حيث لم يوجد هناك تعايش بين الأئمة الزيود والشعب اليمني كما يروج البعض لذلك.

- توضيح الوجه الحقيقي للطبقة الهاشمية وكيف كانت تصور للشعب اليمني بأن العثمانيين محتلين، ولكن، الحقيقة المرة الغائبة عن الشعب اليمني هو أن هذه الطبقة كانت تسهل للعثمانيين أكثر من أي فئة أخرى من فئات الشعب، وعندما لم تحصل على الفوائد من الأتراك كانت تؤلب القبائل ضد الأتراك مستخدمة جهل أولئك  القبائل البسطاء الذين لا يجيدون سِوى لغة العنف التي غرستها الهاشمية الزيدية في عقولهم .

- كشف حقيقة الصراع العثماني مع  الطبقة الهاشمية الزيدية اليمنية.

- توضيح  بعض المعارك التي خاضتها الطبقة الزيدية مع الخلافة العثمانية.

- إظهار الصورة الحقيقة لتيار الطبقة الهاشمية وكيف أن صراعها الماضي والحالي سواء مع الأتراك أو مع الشعب اليمني ما هو إلا صراع من أجل الحكم ولا يمت إلى الدين أوالدفاع عن اليمن بصلة.

منهجية البحث

استخدم  الباحث المنهج التاريخي الوصفي، وقام  بترتيب المعلومات المتصلة بالموضوع ونظمها بشكل منطقي وسليم وذو نسق بالموضوع.

مصادر البحث

الكتب التاريخية، المذكرات، الشبكة العنكبوتية

كلمات مفتاحية

الحكم العثماني الأول والثاني لليمن ، الطبقة الهاشمية الزيدية، الصراع.

مقدمة

تعتبر الخلافة العثمانية واحدة من أكبر الدول الإسلامية التي حكمت العالم الإسلامي لقرون طويلة، ولعبت دوراً لا يُستهان به في خدمة الإنسانية عامة وخدمة المجتمعات المسلمة بشكل خاص، بغض النظرعن الأخطاء والسلبيات التي ارتكبها الأتراك إبان الخلافة العثمانية. من الواضح أن تاريخ الصراع  بين الأئمة الزيود و الخلافة العثمانية في اليمن على السلطة لا يزال غامضا نوعا ما، ولم تتوفر الأبحاث والدراسات التاريخية لكشف هذا الصراع المريرالذي راح ضحيته اليمنيين والأتراك على حد سواء. كانت اليمن بموقعها الجغرافي الهام وسيطرتها على أهم الموانئ والجزر في البحرين العربي والأحمر محل اهتمام  قادة العالم، حيث كانوا ينظرون إلى هذه المنطقة الجغرافية الحساسة من منظور إقتصادي بحت، لأن من يتحكم في منفذ باب المندب سيتحكم في الملاحة الدولية في البحر الأحمر. لذلك، كان من أهم الأهداف التي جعلت الخلافة العثمانية أن تركز على اليمن هو السيطرة على باب المندب، وخليج عدن كي يتم إغلاقهما في وجه البرتغاليين ومنعهم من الوصول إلى شبه جزيرة العرب والمحيط الهندي، وهناك أهداف دينية أخرى للخلافة العثمانية وهذه الأهداف تتمثل في مواجهة المد الصليبي القادم من القارة الأوربية، وحماية الحرمين الشريفين من الغزو الصليبي.

إلا أن الخلافة العثمانية واجهت الكثير من الصعوبات والتي جعلتها غير قادرةعلى ضبط الأمن وتثبيت الاستقرار في ولاية اليمن وخاصة في المرتفعات الشمالية، وكان ذلك راجعا لعدة أسباب منها سياسية، ودينية، وجغرافية وغيرها من الأسباب الأخرى. كما لا يخفى أن "سكان اليمن ينقسم إلى جبليين وسهليين، وقد أدى هذا الانقسام إلى وجود اختلافات طبيعية وسلوكية بين السكان هناك. فقد عرف الجبلي بالنحافة وكثرة الحركة، وشدة الحيوية، كما اتصف بالذكاء والحذر من الغرباء والشك فيهم، وذلك على عكس السهلي الذي يميل إلى البدانة والاسترخاء والركون إلى الراحة والسلام. (سالم، ص. 29-30). وقد كانت الجبال ملجأ حصينا يلجأ إليها  أصحاب العصبيات السياسية والدينية كما هو الحال بالنسبة للمناطق الجبلية دائما في الجهات المختلفة من العالم" (ص. 30).

كان قادة الإمامة الزيدية يؤمنون أن الأتراك سلبوا منهم الحكم ولذلك وجب قتالهم لأن من شروط الإمام عندهم أن يكون زيدياً ومن نسل أبناء فاطمة ولا بد أن تتوفر في هذا الإمام أربعة عشر شرطاَ " أن يكون الإمام مكلفا،ً ذكراً، حراً، مجتهداً، علويا،ً فاطمياً، عدلا، سخياً، ورعاً، سليم العقل، سليم الحواس، سليم الأطراف، صاحب رأي وتدبير، مقداماً فارساً" (ص. 39).

المحور الأول : الحكم العثماني الأول لليمن ( 1538-1635)

امتدت سيطرة الخلافة العثمانية إلى معظم بلاد المشرق العربي بما في ذلك، مصر والشام وشبه جزيرة العرب بما فيها اليمن. " أصبحت الدولة العثمانية بداية القرن السادس عشر مهددة من الجهة الغربية للبحرالمتوسط بالقوة البحرية الاسبانية، ومن الجهة الجنوبية للبحر الأحمرمن طرف البرتغاليين، وقد أدى دخول العثمانيين مصر وإطاحتهم بالمماليك في مصر في عام 1517 إلى أن يكونوا في الواجهة مع البرتغاليين في الجهة الجنوبية للبحر الأحمر، مما أدى بهم إلى إرسال قوات إلى اليمن" (بوقشور.287).

اعترف المماليك في اليمن من صنعاء وتم ذلك الإعلان من صنعاء عام 1517. استمرت التبعية الاسمية للعثمانيين حتى اقدمت ]الخلافة العثمانية[على إرسال حملة عسكرية قوية بقيادة سليمان باشا الخادم سنة 1538م، وحرص العثمانيون على إرسال أول والي لهم إلى اليمن، هو الوالي مصطفى باشا النشار عام 1541م. لم تكن لفترة حكمه أي أهمية حتى تم إرسال حملة عسكرية قوية بقيادة الوالي أويس باشا سنة 1546م "(ثور، ص. 160).

لكن، من الواضح أن دخول اليمن رسميا تحت سيطرة الخلافة العثمانية بدأ في عام 1538م حينما أمر السلطان العثماني سليمان القانوني بالتوجه إلى عدن والمحيط الهندي لمواجهة البرتغالين في المحيط الهندي. كانت الحملة بقيادة والي مصر سليمان الخادم إلى الهند ولم تحقق أهدافها فعاد إلى اليمن، وتم السيطرةعلى شحر وتهامة وزبيد، ثم دخلوا اليمن في عهد إزدمر باشا 1547م (الأدهمي 96-97).

وعلى الرغم من السيادة العثمانية في اليمن، والتنظيم الإداري العثماني فيه، إلا أن نفوذ أئمة اليمن من الزيديين ظل قويًا وفاعلاً، وامتد إلى مناطق كبيرة من البلاد اليمنية، خاصة في المناطق الجبلية،  وصل أُوَيس باشا إلى اليمن عام 953هـ، 1546م، واستطاع أن يوطد السيادة العثمانية في مناطق واسعة، وخاصة في المناطق الجبلية التي لم يصل إليها العثمانيون. كما استطاع أن ينظم جندًا محليًا من اليمنيين يعملون جنبًا إلى جنب مع القوات العثمانية، لكن العسكر غدروا به وقتلوه فتولى الأمر أزدمر باشا وعين واليًا على اليمن برتبة باشا (" ولاية اليمن"). سجل المؤرخون حضورا قويا لأزدمرباشا لأنه وحد أقاليم اليمن من عدن حتى صعدة.

الجزء الأول: صراع المطهر مع والده ومع الأتراك

تقاسم العثمانيون مع الأئمة الزيديين السلطة في اليمن، لكن في بداية العام 40/1541م، أصدر السلطان العثماني سليمان بتعيين أول والي لليمن، وهو مصطفى باشا النشار (ص.173). وقد إتسم حكم مصطفى النشار بالهدوء النسبي " (ص. 73)، إلا أن التواجد العثماني  الأول في اليمن تميز بمراحل عنف وصراع مسلح، ولم تستطع الخلافة العثمانية من بسط سيطرتها على المرتفعات الشمالية بشكل كامل وذلك لعدة أسباب.

أولاً: إن وعورة الجغرافيا في اليمن كان سبباً في عدم تمكن العثمانيين من بسط السيطرة على كل الجغرافيا اليمنية.

ثانيا: القوة البشرية في المناطق الشمالية والسهلية كان عائقا أمام تقدم الجيوش العثمانية النظامية.

ثالثاً: كانت المناطق الوسطى تعتنق المذهب السني إلا أنها كانت ترفض الظلم خاصة أن بعض الولاة العثمانيين كانوا يمارسون الظلم ضد هؤلاء القوم، مما جعلهم يثورون ضد العثمانيين في أغلب الأوقات. إضافة إلى ذلك، الاختلاف المذهبي كان حاضرا وبقوة آنذاك، حيث كان يوجد في المرتفعات الشمالية والوسطى حوالي ثلاث طوائف تقريبا، ناهيك عن الطوائف الأخرى في شرق اليمن.

الطائفة الأولى: الزيود وكانوا يقطنون المرتفعات الشمالية.

الطائفة الثانية: الطائفة الاسماعيلية وكانت تقطن جبال حراز وأيضا بعض مناطق نجران في أقصى شمال اليمن. كانت هذه الطائفة عبارة عن أقلية شيعية.

الطائفة الثالثة: الشوافع وهؤلاء كانوا يسكنون في المناطق الوسطى والغربية وبعض المناطق الجنوبية. هذا التنوع المذهبي جعل البعض من الطوائف ترفض التواجد العثماني وخاصة الطائفة الزيدية التي كانت ترى أن الحكم هو ملك لها ولا يجوز منازعتها  في ذلك. ولذلك، كان يتعامل قادة هذه الطائفة مع التواجد العثماني كمحتل أجنبي وإن كانوا يظهرون الولاء للخلافة العثمانية فلم يكن ذلك سٍوى نوع من التقية التي تعتبر سمة أساسية من سمات المذهب الزيدي الجارودي المتواجد في اليمن.

بداية الصراع:

أرتكب الإمام شرف الدين بعض الأخطاء ومنها أنه قام بتقسيم مناطق اليمن لأولاده مما جعل ولده المطهر يغضب منه، فقام بتأليب القبائل ضد والده، كما قام بمساندة الأتراك وكان ذلك في بداية العام 1540م. تفجر الصراع بين شمس الدين بن شرف الدين وأخيه المطهر بين شرف الدين. كان  المطهر قوياً، وقد أرغم أخيه علي بن شرف الدين أن يكون ضمن أدواته، لكن الصراع المطهر وبين أخيه شمس الدين استمر وكان قد بلغ الصراع أشده وذلك في العام 1546م. توجه بعد ذلك الإمام المطهر إلى حصن ثلاء. كان المطهر يؤلب القبائل ضد أخيه وولاته في بعض المناطق الخاضعة لسيطرة شمس الدين، كما أنه كتب كتابا إلى أويس باشا يطالبه بالقضاء على سلطة أخيه شمس الدين. ارتاح أويس باشا لهذه الدعوة وتحرك من تهامة "زبيد" إلى تعز لمواجهة  شمس الدين (ص. 178).  وهكذا، اتسمت العلاقات العثمانية بالحركة الزيدية  تارة بالحذر الشديد، وتارة بالسلم، وتارة بالعنف. كان هدف الخلافة العثمانية هو السيطرة على الملاحة في البحر الأحمر، ولذلك، لم تدخل في صراع مباشر مع الأئمة الزيود في بداية الأمر. اقتصرالفتح العثماني على منطقة السواحل اليمنية فقط من جيزان شمالا إلى عدن والشحر جنوبا، أما جهات اليمن الداخلية فقد ظلت تحت حكم الإمام الزيدي شرف الدين. كان الجديد الذي حققه سليمان باشا هو انتزاع عدن من أيدي الطاهريين واخضاعها للسيادة العثمانية. (ص.168).

لم يحب العثمانيون  أن يدخلوا في صراع مباشر من أسرة شرف الدين التي تسيطرعلى المرتفعات الجبلية. لكنهم رأوا أنه من غير المنطقي أن يكون هناك دولة عثمانية في السواحل اليمنية، مع وجود  دولة أخرى في الوسط وفي المرتفعات الشمالية. لذلك، كان لا بد من حسم المعركة إما لصالح العثمانيين أولصالح الطبقة الزيدية بقيادة آل شرف الدين، لأن الخلافة العثمانية كانت تريد أن تؤمن جيوشها في المناطق الساحلية وخوفا من الهجوم الذي قد يشنه آل المطهر على الحاميات العثمانية. لذلك،  رأى العثمانيون ضرورة الدخول في معركة مع هذه الطبقة وإزاحتها من السلطة وبسط سيطرة الخلافة العثمانية على كافة الأراضي اليمنية. ساعدت الخلافات الموجودة بين أبناء القبائل والطبقة الهاشمية وكذلك، الخلاف بين الطائفة الاسماعيلية وبين الطائفة الزيدية  العثمانيون في اقتحام المناطق الوسطى والشمالية. كانت تخاف الطبقة الاسماعيلية من آل شرف الدين خصوصا من الإمام الزيدي شرف الدين. ولذلك، سارع الداعي محمد بن إسماعيل  والي الطبقة الاسماعيلية إلى زبيد طالبا العون من الخلافة العثمانية لمواجهة آل شرف الدين( ص. 183).

يتضح أن والي الطبقة الاسماعيلية، وكذلك الإمام المطهر إبن شرف الدين كانا يضغطان على أويس باشا، أن يتوجه إلى المناطق الشمالية لمواجهة شرف الدين. كما  أن إمام الإسماعيلية قد أغرى أويس باشا وأكد له أنه مستعد أن يمده بخمسين ألف مقاتل (ص. 183). فهم أويس باشا أن المطهر يريد القضاء على سلطة والده وأخيه وأن إمام الطائفة الاسماعيلية كان يخاف من جبروت  شرف الدين، لكن لم يرضخ أويس باشا لمطالب زعيم الطائفة الاسماعيلية والمطهر إبن شرف الدين، بل توجه إلى تعز لأنه كان يعرف أهمية هذه المدينة، لكي يقوم بتأمين الحامية العثمانية في المناطق الجنوبية والغربية. (ص.184). سقطت تعز بيد الوالي العثماني في 1546م بعد معارك ضاربة، ثم توجه إلى ذمار لمحاصرة صنعاء. لم تنجح خطة أويس باشا فقد غدر به بعض اتباعه وقتلوه، وكان ذلك في مطلع العام 1547م (ص. 184).

لكن، من الواضح أن أويس باشا نجح في هزيمة الطبقة الزيدية في جنوب ووسط اليمن، وكان ذلك لعدة أسباب منها:

أولاً: التفوق العسكري العثماني

ثانياً:  كما أنه لا توجد حاضنة شعبية للطبقة الزيدية في جنوب اليمن.

ثالثاً:  علاوة على ذلك، فساد الأئمة الزيود جعل أبناء تلك المناطق  يرحبوا بالعثمانيين.

شعر الإمام شرف الدين بخطورة الأوضاع وأنه لا مجال له لمواجهة الجيوش الزاحفة من جنوب صنعاء. لذلك، عقد الصلح مع ولده المطهر وتخلى عن الإمامة هو وولده شمس الدين لأبنه الأكبر المطهر، وقد انسحب الإمام شرف الدين إلى كوكبان. بعد ذلك، توجه الإمام المطهر إلى صنعاء واستلم زمام الأمور وأصبح الإمام الزيدي في صنعاء، وقد قام بمصادرة أملاك من كان يعمل مع والده وقبض على بعضهم.  (ص.186).  أراد الإمام الزيدي الجديد أن يقوم بمهاجمة العثمانيين في ذمار إلا أنه لم يجد حاضنة شعبية ليقوم بمهاجمتهم. حاول الإمام المطهر أن يستغل ظروف العثمانين المضطربة خصوصا بعد مقتل أويس باشا، إلا أن إزدمر باشا وحد صفوف جيشه وتوجه لمهاجمة صنعاء وقام بحصارها حتى سقطت بيد الجيش العثماني. أكد المؤرخ  سيد مصطفى سالم أنه حصل نهب في بداية الأمر إلا أن أزدمر باشا أوقف ذلك لما كان يتصف به من التقوى والصلاح (ص. 190).

يتضح بعد سيطرة العثمانيين على مدينة صنعاء أنهم قد وصلوا إلى قلب المناطق الشمالية اليمنية. عرف أزدمر باشا أنه لا يمكن له الاستقرار في صنعاء والإمام المطهر بن شرف الدين لا زال يعسكر القبائل في منطقة ثلاء شمال غرب صنعاء. كان الإمام شمس الدين وأخيه علي يساعدوا العثمانين ويؤلبونهم لمواصلة القتال ضد أخيهم المطهر لأنه سلب منهم الحكم بالقوة. "كما رفض عز الدين بن شرف الدين أمير "صعدة" التعاون مع أخيه المطهر في صد العثمانيين عن "صنعاء"، وذلك عندما رفض أمر أبيه الإمام بالعودة من نواحي "جيزان" إلى "صعدة" حتى يستعد لمواجهة العثمانيين" (ص. 192). سقطت صعدة بيد أزدمر باشا في العام 1548 م (ص. 194). إلا أن المطهر بقي مكانه في حصن ثلاء ولم يستسلم، وبقي مكانه يواجه العثمانيين. بعد ذلك وصل مصطفى النشار على رأس حملة عسكرية تضم ثلاثة ألف من الجنود أوخر 1551م  (ص.  200-201). استمر حصار ثلاء لمدة سبعة أشهر من قبل مصفى النشار وأزدمر باشا. أستطاع القائدان أن يسقطا مدينة ثلاء، إلا أن المطهر تحصن في حصن المدينة. دخل الأتراك في صلح مع المطهر وتركوا له أملاكه.

أستطاع المطهر بعد ذلك أن يؤلب الأشراف في الجوف وعمران ضد التواجد العثماني في اليمن. يجدرالأشارة أن والد المطهر رفض أن يكون ولده الإمام الزيدي، بل شجع آل المؤيد وهم من الأشراف أن يكون أحدهم واليا على صعدة وقد تم إختيار أحمد بن الحسين المؤيدي واليا على صعدة (ص. 208).

حاول الإمام المؤيدي أن يقتحم المناطق التي يسيطرعليها المطهر، ووقعت حروب  بينهم. حيث أن الإمام شرف الدين كان يؤيد أحمد بن حسن المؤيدي ضد ولده المطهر.  لكن هُزم المؤيدي في تلك المعارك، إلا أن المطهرلم ينتقم منه، ولذلك قرر له راتب شهري، إلا أنه مات بعد ذلك، أي المؤيدي (ص. 210). تم عزل إزدمر باشا في عام 1555. لكن، يبقى الأمر واضحا أن أزدمر باشا هو من قام بضم اليمن إلى الدولة العثمانية وجعل هذا البلد التقليدي جزءاً لا يتجزأ من الأمبراطورية العثمانية. وقد كان لهذه السيطرة صداها في القرن الأفريقي وبعض المناطق الأخرى، حيث توسعت الخلافة العثمانية في سواكن السودانية، ومصوع، إرتيريا حاليا، ...إلخ. ويرجع توسع الخلافة العثمانية آنذاك  وسيطرتها على المناطق اليمنية بشكل شبه كامل إلى عدة عوامل، منها،

أولاً: قوة الخلافة العثمانية آنذاك حيث كان يقود الخلافة السلطان سليمان القانوني.

ثانياً: قوة شخصية إزدمر باشا وعدله وإحسانه.

ثالثاً: ضعف الإمامة الزيدية في اليمن، حيث كانت تتناحر على السلطة.

رابعاً: ضعف الأحوال الاقتصادية والسياسية، حيث كان الشعب اليمني يخوض معارك شرسة مع الإمامة فما أن يخرج من معركة حتى يدخل في الثانية (ص 212-213).

الجزء الثاني من صراع المطهر مع العثمانيين:

ثار الأئمة الزيديون ضدَّ العثمانيين عام  1547م بقيادة الإمام مطهر بن شرف الدين الزيدي، وساعده عدد من العسكر العثمانيين الذين تمرَّدوا على السلطة العثمانية في اليمن بسبب ضَعْف رواتبهم، وتعمَّقت الثورة اليمنية بسبب الخلاف القائم بين الوالي العثماني في زَبِيدَ وتِهَامة والوالي العثماني في صنعاء والمناطق الجبلية، ]بعد وفاة السلطان سليمان القانوني، تشجع الأئمة الزيود على التمرد ضد الخلافة العثمانية[ فدخل الإمام مطهر الزيدي مدينة صنعاء عام 975هـ / 1567م. انهارت السلطة العثمانية بسبب التمرد الذي قاده المطهر شرف الدين والذي كان قد أبرم صلحا مع الأتراك، لكنه عاد وتمرد من جديد مما دفع  السلطان سليم الثاني أن يُرْسِل سنان باشا والي مصر إلى اليمن على رأس حملة عسكرية لإعادة الأمن والنظام فيها، وكان ذلك عام 977هـ / 1569م. ("ثورة الزيدية ضد العثمانيين").  استطاع خلال سنتين أن ينهي التمرد ويسترد كثير من المناطق التي سيطرعليها الإمام المطهر. بوفاة المطهر في 1572 انتهت إمامة آل شرف الدين ولم يستطيعوا النهوض من جديد على الرغم من محاولاتهم اليائسة (الأدهمي، ص. 97).

لكن، ينبغي التوضيح أنه قبل إنهيار الخلافة العثمانية في اليمن وقبل موت المطهر بن شرف الدين كان هناك الكثير من الولاة العثمانيين الذين حكموا اليمن وكانوا غير مؤهلين لقيادة الحكم في هذا البلد التقليدي، حيث جاء بعد محمود باشا رضوان باشا وكان ذلك في العام  1566م. كان هذا الوالي ضعيفا وقد ساعد على انهيار الخلافة العثمانية في اليمن. لم يستطيع بناء علاقات جيدة مع الأطراف المؤثرة التي كانت تساعد التواجد العثماني في اليمن، وخصوصا الطائفة الاسماعيلية. كما أنه دخل في صراع مع المطهر بن شرف الدين وهزم خاصة في عمران.

وقد لخص أحد المؤرخين تدهور السيطرة العثمانية الأولى في اليمن في النقاط التالية:

1- ضعف أوضاع العثمانيين السياسية والاقتصادية.

2- تقسيم اليمن إلى ولايتين أضعف من قوة العثمانيين الذاتية.

3- تخبط سياسة رضوان باشا ورفعه الضرائب لشدة حاجته إلى المال.

4- تذمر اليمنيين بوجه عام مما جعلهم يقفون إلى جانب المطهر.

5- نجاح المطهر في الاحتفاظ  بوحدة الجبهة الزيدية.

6- قوة شخصية المطهر ومهاراته السياسية.

تم عزل رضوان باشا من ولاية اليمن وتم تعيين حسن باشا بدلاً عنه، إلا أن المطهر انتهز الفرصة وحاصر صنعاء من جديد نظرا لوجود الخلافات بين رضوان باشا ومراد باشا. بدأ الصدام بين المطهر وبين مراد باشا، أي قبل وصول حسن باشا إلى اليمن، وقد استطاع المطهر أن يخرج العثمانيين من المناطق الشمالية. أصرمراد باشا أن لا يتقدم مرة أخرى نحو صنعاء بل انسحب إلى تعز وقد كان لهذا القرار تداعيات خطيرة على وجود العثمانيين في اليمن.

تم قتل مراد باشا في إب وقد أحضرت القبائل رقبة مراد باشا إلى المطهر. بعد ذلك، إنهارت الخلافة العثمانية وتوجه المطهر بجيوشه إلى تعز حتى وصل إلى عدن من جديد، وانحصر وجود العثمانيين في  المناطق التهامية في "زبيد" (ص.243).

وصل حسن باشا إلى زبيد في نهاية 1567، واستطاع أن يستقر في زبيد وأن يدافع عنها لأنها آخر ما تبقى للعثمانيين في اليمن. وهكذا، استطاع المطهر أن يسيطر على المناطق الشمالية والوسطى والجنوبية إلا أنه فشل في السيطرة على زبيد.

حملة سنان باشا 1568-1571م.:

"أعدت الدولة العثمانية حملة بحرية كبيرة بقيادة سنان باشا والذي تمكن خلال 1568-1571م من استعادة السيطرة العثمانية على اليمن على الرغم من ما واجهته من صعوبات بالغة ولا سيما من الزيديين الذين رفضوا الوجود العثماني في اليمن" (عيسى، 1)

استعاد القائد العثماني سنان باشا السيطرة على عدن وتعز ووصل إلى مشارف صنعاء من جديد، وكانت هذه الحملة العسكرية مدعومة بشكل مباشر من السلطان العثماني سليم الثاني. دخل سنان باشا صنعاء إلا أنه أحس بالخطر من المطهر الذي انسحب من صنعاء باتجاه كوكبان وثلا، والمناطق الجبلية الأخرى في شمال وغرب صنعاء. رأى سنان باشا أنه لا يمكن السيطرة على اليمن إذا لم يتم إخماد التمرد الذي يقوده المطهر من المناطق الجبلية شمال صنعاء. ولذلك، استمرت المعارك لما يقارب من عامين، انتهت بموت الامام الزيدي المطهر في مدينة ثلا سنة 1573م. اتاح موت المطهر للعثمانيين السيطرة على أغلب المرتفعات الجبلية في حجة وعمران حتى وصلوا إلى صعدة في أقصى شمال اليمن، والتي كانت تُعتبر المعقل التاريخي للحركة الهاشمية الزيدية. استطاع حسن باشا أن يأسرالإمام الحسن بن داود الذي استحوذعلى الإمامة بعد وفاة المطهر ( "سنان باشا المجاهد العثماني")

تميزت هذه المرحلة باسترجاع المناطق الجنوبية وتعز، وإخضاع المناطق الوسطى والشمالية بما في ذلك صنعاء للسيطرة العثمانية، وأيضا الصدام بين سنان باشا والمطهر بن شرف الدين، وقد ساعد الوالي العثماني استرجاع المناطق التي كانت تحت سيطرة المطهر هو وجود الظلم الذي كان يُمارس ضد الأهالي، وأيضا الاختلافات المذهبية بين الزيود والشوافع  في  تلك المناطق. إلا أنه نظرا لعدة أسباب داخلية وخارجية فقد اضطر سنان باشا أن يعقد صلح مع شمس الدين بن شرف الدين والذي كان واليا على كوكبان وذلك في عام 1570م. كما تم عقد صلح مع المطهر بن بن شرف الدين، ثم بعد ذلك غادر سنان  باشا اليمن في عام 1571 وتم تنصيب بهرام باشا بديلا عنه (ص. 292).

1571-1607

تعتبر هذه الفترة من أفضل مراحل التواجد العثماني الأول في اليمن من حيث الاستقرار وبسط سيطرة الدولة على الرغم من ضعف قيادة  الخلافة العثمانية في إسطنبول، إلا أن قوة الولاة في اليمن، وكذلك ضعف الشخصيات الزيدية ساعد على استقرار الأمور في ولاية اليمن. بالإضافة إلى ذلك تفجرالصراع بين الأئمة الزيود أنفسهم على السلطة ساعد الدولة العثمانية على بسط سيطرتها على أغلب المناطق الشمالية. ومع وصول حسن باشا إلى اليمن في العام 1580 فقد قام بتثبيت أركان الدولة العثمانية في أغلب الأراضي اليمنية، ودانت له القبائل التي كانت قد سئمت من حكم القضاة والأئمة الزيود.

صراع القاسميين مع الأتراك 1590 -1630م

"1580- 1604 كان هناك إستقراراً نسبياً وبسطاً للسلطة المركزية للوالي العثماني حسن باشا الوزير، إلا أن الفساد الإداراي والظلم فقد تفجرت ثورة بقيادة الإمام الزيدي القاسم بن محمد الذي أسس حكم أسرة القاسميين" (الأدهمي 97).

كانت هذه المرحلة حساسة في تكوين الطبقة الزيدية كحاكم فعلي في المناطق الشمالية الجبلية. حيث أن خروج الإمام القاسم وصراعه مع الأتراك كان له أثراً بالغاً في جمع الطبقة الزيدية الهاشمية. كما أن إنتفاضة الإمام القاسم هي التي شلت حكم الطبقة الهاشمية الزيدية وجعلته مستمرا حتى قيام ثورة 1962 اليمنية. خرج الإمام القاسم من منطقة شهارة وقاد ثورة شعبية عارمة مستخدما المذهبية لتأليب القبائل ضد الوجود العثماني، وقد أورد نسبه إلى أن وصل إلى الإمام علي، وكان يُظهرنفسه أنه المنقذ الوحيد لليمنيين. وقد ألقى الإمام القاسم خطابا لليمنيين يحثهم على قتل الأتراك ومن ضمن خطاباته العامة الموجهة لليمنيين كافة بقوله: "وبعد فإن الله قد أوجب عليم قتل هؤلاء الأتراك وأعوانهم من العرب على أي حال ولو خفية في الطرقات والمساجد والبيوت، ومن ترك ذلك وهو يقدر عليه فهو عند الله من الهالكين"( سالم، 375).  إلا أن المرحلة الأولى من تاريخ صراعه مع الخلافة العثمانية لم يستطيع حسم المعركة عسكريا  لصالح قواته بل تم هزيمته وطرده إلى جبال برط. أما في المرحلة الثانية من صراعه مع الأتراك فقد تم الاعتراف به كحاكم فعلي على أغلب مناطق محافظة عمران وخاصة في عذر والأهنوم، ووادعة، وقد اتفق مع جعفر باشا على أن يكون للعثمانين من ذمار حتى عدن جنوبا ويكون له أي الإمام القاسم من صنعاء حتى صعدة شمالاً. كان اتفاقه مع جعفر باشا هوالذي مهد له للسيطرة على بعض المناطق الشمالية وفرض شروطه.  

ثم حصل بعد ذلك عدة معارك بين الأئمة الزيود والولاة العثمانيين وكان آخر تلك المعارك بين الإمام المؤيد وحيدر باشا حيث حاصر الإمام المؤيد مدينة صنعاء لمدة عامين وقاتل الطائفة الاسماعيلية التي كانت تقف إلى جانب العثمانيين، وتم خروج الوالي العثماني من صنعاء إلى زبيد،  وكان ذلك في العام 1629م (مرجع سابق، ص. 396). كما استولى الحسن بن الإمام القاسم على مدينة تعز بعد معارك ضاربة. استمرت المعارك بين العثمانيين والأئمة الزيود في المناطق الغربية حتى تم خروج العثمانيين بعد صلح مع الإمام الحسن بن القاسم في العام 1635م وكان ذلك هوالخروج الأول للعثمانيين من اليمن بعد حكم استمر لأكثر من قرن من الزمان، حيث كانت تلك الفترة مليئة بالحروب والاضطرابات والصراعات، والاغتيالات والحروب المدمرة بين الطبقة الهاشمية والخلافة العثمانية. لقد دفع اليمنيون ثمناً باهظاً في تلك الحروب، وكان أبناء القبائل والأبرياء من الطبقات الأخرى المسحوقة هم وقود تلك الحروب الكارثية. لم يكن لتلك الحروب من مبرر سِوى أن الطبقة الزيدية كانت تؤمن إيماناً قاطعاً بأن اليمن ملكا لها وأن الحكم خاص بها ولا يجوز لأحد أن ينازعها في ذلك.

لقد كان لتلك الحروب الأثر السلبي على المجتمع اليمني من عدن حتى صعدة، حيث تم تقسيم البلاد على أسس مناطقية ومذهبية والسبب هو فكر  الطبقة الزيدية القائم على العنف والقتال المتواصل. لقد أفرزت تلك الحروب واقعاً مأساوياً لا يزال الشعب اليمني يدفع ثمنه حتى كتابة هذه السطور، وما يحصل اليوم هو خير دليل على ذلك.

المحورالثاني: الحكم العثماني الثاني لليمن (1833-1924م).

كان دخول العثمانيون اليمن للمرة الثانية في نهاية الثلث الأول من القرن التاسع عشر هو أيضاً لدحر الصليبيين الأوربيين الذين حاولوا احتلال اليمن الشمالي، كي يتسنى لهم مهاجمة الأراضي المقدسة (مكة والمدينة). ولذلك، سارعت الخلافة الإسلامية لدحر بريطانيا كي لا تتمدد في شمال اليمن ومن ثم تقترب من الحرمين الشريفين، خصوصا وأنه كان هناك حلفاء من العرب أنفسهم يساعدون بريطانيا على التمدد، على حساب الخلافة الإسلامية. ولذلك، عاد العثمانيون إلى صنعاء مرة ثانية وإثرعودتهم سقطت الدولة القاسمية الزيدية التي كانت تسيطر على بعض مناطق البلاد الشمالية. ضُمت اليمن خلال العهد العثماني الثاني لأراضي الخلافة الإسلامية بإستثناء بعض المناطق الجنوبية التي كانت خاضعة للإحتلال البريطاني البغيض.

ومن ضمن الأسباب التي جعلت العثمانيين يعودون لليمن مرة ثانية هو أن الأمن لم يكن  مستتباً في المناطق الشمالية اليمنية بسبب الصراع الدائم بين أبناء الطبقة التقليدية الهاشمية اليمنية وشيوخ القبائل على الحكم. ولذلك، حاول اليمنيون وخاصة التجار والعلماء والمواطنين المغلوب على أمرهم أن يجدوا من يساندهم، ويحقق لهم الأمن والسلام، والاستقرار، فاستنجدوا بالعثمانيين، كي يساعدوهم في تحقيق الأمن والتخلص  من حروب الطبقة الهاشمية الزيدية التي لا تعشق سوى لغة الدمار والخراب. خلال دخول العثمانيين اليمن للمرة الثانية هدأت الأوضاع، واستتب الأمن وبدأت التنمية تنتشر في ربوع ولاية اليمن، وبدأت نهضة علمية وفكرية غير مسبوقة، وتم فتح المدارس والكليات، إلا أن الطبقة التقليدية الهاشمية كانت تحاول تدمير كل ما هو جميل.

لم يكن وجود العثمانيين خلال حكمهم الثاني لليمن احتلالاً كما يشبهه بعض مؤرخي الإمامة الزيدية، بل كان من  أجل مساعدة المجتمع اليمني للخروج من وطأة الطبقة الهاشمية الزيدية، التي تؤمن بأن الله قد منحها حق الحكم لقيادة الشعب اليمني، لأن معظم الأراضي الإسلامية كانت تخضع للخلافة الإسلامية وكانت اليمن واحدة من تلك الولايات الإسلامية، كما أنه لم يكن بمقدور أحد مواجهة التوسع الصليبي في المنطقة العربية سِوى الخلافة العثمانية. من الواضح أيضا، أن الأئمة الزيود  في اليمن حاولوا وعلى مدى عقود القرن الماضي تشويه تاريخ الخلافة العثمانية فيما يخص اليمن و كتب  مؤرخو الأئمة  الزيدية الكثير من الأبحاث والمؤلفات عن التواجد العثماني الثاني في اليمن، كان البعض من هذه المؤلفات غير منصفة.

لقد كان  لصراع الأئمة على الحكم في اليمن الدور السلبي في تأخير التقدم العلمي  والمشروع النهضوي الذي تبناه العثمانيون إبان حكمهم الثاني لليمن، كما أن هذه الطبقة التي اصبح العنف جزءاً لا يتجزا من ثقافتها المؤدلجة قد جعل الشعب اليمني يعيش في ظلام دامس وجهل مركب ووضع إنساني معقد وبيئة جغرافية مخيفة ومملؤة بالكوارث والصراعات الطبقية والطائفية وما شابه ذلك. على سبيل المثال لا الحصر، عندما علم إمام صنعاء محمد بن يحيى بوصول "العثمانيين إلى الحديدة في العام 1849م أراد أن يفوت الفرصة على اليمنيين وحرمانهم من الاستفادة من الخبرات العثمانية، وكذلك أراد أن يفوت الفرصة على خصمه اللدود الذي ينافسه على الإمامة في صنعاء وهو الإمام علي المهدي. سارع الامام محمد بن يحيى بالاتصال بالعثمانيين في الحديدة من أجل أن يقضي على علي المهدي (أباظة 49).  تفجر الصراع بين علي بن المهدي ومحمد بن يحيى في صنعاء وكالعادة كان العثمانيون والقبائل هم ضحية لصراع الطبقة التقليدية الهاشمية. أكد إبراهيم أباظة في بحثه  الحكم العثماني في اليمن 1872-1918، أّنه "كان من الممكن لو استغلت الامامة أهمية موقع اليمن الجغرافي وثرواته الطبيعية، مع تطوير النظم الاصلاحية التي وضع أسسها الأتراك لقطع اليمن شوطاً بعيداً في سبيل التقدم"( 8).

صراع بيت حميد الدين مع الأتراك

"كانت ثورة 1891 التي قادها الإمام المنصور محمد بن يحيى حميد الدين من قفلة عذر ببلاد حاشد، وحاصر الأتراك داخل صنعاء، ولم تنته هذه الثورة إلا بوصول قوات جديدة بقيادة أحمد فيضي باشا الذي تمكن من فك الحصار عن صنعاء ودخولها من جديد، ثم قامت ثورة أخرى قادها الإمام يحيى عشية وفاة والده المنصور سنة 1904 مهدت إلى إجراء مفاوضات انتهت بعقد صلح بين الجانبين التركي واليمني" ("اليمن: التاريخ الحديث"). سُمي ذلك الصلح باتفاقية دعان وتم التوقيع على تلك الاتفاقية في 9 أكتوبر عام [1911م – 1329هـ] بين الإمام يحيى ممثل الطرف اليمني وبين ممثل الحكومة العثمانية [وسميت بهذا الإسم نسبة إلى قرية صغيرة تقع فوق قمة جبل شمال غرب مدينة عمران] وحددت مدتها بعشر سنوات تهدف الاتفاقية إلى تحقيق الأمن والسلام في البلاد اليمنية وقد شملت هذه الاتفاقية على بنود ثيرة، سنذكر البعض منها في هذا المبحثوهي كالتالي:

- يُنْتَخب الإمام حاكماً لمذهب الزيدية وتُبَلغ الولاية بذلك

- تشكل محكمة استئنافية للنظر في الشكاوى التي يعرضها الإمام

- تشكيل محاكم مختلطة من حكام [الشافعية] [الزيدية] للنظر في دعاوى المذاهب المختلفة .

 - تكون مسائل الأوقاف والوصايا منوطة بالإمام .

- الحكومة تنصب الحكام للشافعية والحنفية فيما عدا [الجبال[

- يمكن لمأموري الحكومة و أتباع الإمام أن يتجولوا في أنحاء اليمن بشرط ألا يخلوا بالسكينة والأمن .

يجب على الفريقين ألا يتعديا الحدود المعينة لهما بعد صدور الفرمان السلطاني بالتصديق على هذه الشروط ("اتفاقية دعان").

خرج العثمانيون من اليمن وسلموا لليمنيين دولة بكل عتادها بما في ذلك السلاح، والمصانع، والسكك الحديدية، والمستشفيات والقلاع والحصون، ومصانع السلاح والذخيرة، ومصانع الحديد والصلب التي  كانت بصنعاء، لكن الإمام استولى على كل شيء وحول البعض من تلك الأماكن الهامة إلى سكن خاص به والبعض الآخر إلى سجون. 

خاتمة البحث

- يتضح مما سبق بأن الطبقة الهاشمية اليمنية كانت تقاتل العثمانيين ليس من أجل حماية اليمن من الأطماع كما كانت تدعي تلك السلالة الهاشمية وإنما لأنها كانت تدرك أن العثمانيين سلبوا منها الحكم.

- كانت تستخدم تلك الطبقة ذرائع واهية من أجل شحذ همم القبائل لمواجهة أي مشروع تركي ولو كان ذلك لصالح المواطن اليمني. على مدى أكثرمن قرنين من الزمان من تاريخ اليمن كانت مليئة بالصور القاتمة، والمحزنة والمخيفة، فقد تميزت تلك الفترات بالصراع الدائم والدموي، ولم يتوقف إلا لفترات محدودة.

- كانت هناك عدة عوائق أمام بسط السيطرة العثمانية على المناطق الشمالية منها التضاريس الجبلية ووعورة الوصول إلى المرتفعات الشمالية، وأيضا انتشار المذهب الزيدي في أوساط القبائل اليمنية كان يمثل عائقا كبيرا أمام القادة العثمانيين.

-  كان يسيطر العثمانيون على تلك المناطق إلا أنهم سرعان ما كانوا يدخلون في معارك ضاربة مع الأئمة الزيديين، مما جعل الخلافة العثمانية غير قادرة على الاستفادة من اليمن. بل يمكن القول أن الخلافة العثمانية قد خسرت ماديا وبشريا في اليمن أكثر من أي منطقة أخرى في شبه جزيرة العرب.

- عرّضت تلك الصراعات الدموية  على الحكم  السلمَ الأهلي اليمني والنسيجَ المجتمعي للدمار ولا زال الشعب اليمني يدفع ثمن ثقافة صراع الطبقة الهاشمية الزيدية  على السلطة حتى اللحظة. لا يمكن للطبقة الهاشمية الزيدية أن يهدأ لها بال، إذا لم تكن متربعة على سدة الحكم، ولوكان ذلك على أنهار من الدماء.

 - كما أن الصراع بين الطبقة الهاشمية الزيدية مع الأتراك قد عرض البلاد لعمليات نهب وسلب غير مسبوقة، ومما يؤلم أن قادة الحروب من الطبقة الهاشمية آنذاك لم يكن يمسهم من شرر الحرب، إلا الجزء اليسير، بينما القبائل كانت هي الضحية الكبرى لتلك الحروب المدمرة.

المصادر: 

[1] سالم، مصطفى. الفتح العثماني الأول لليمن (1538-1637). الطبعة الخامسة 1999م.

[2] بوقششور، محمد الصالح. اليمن في العهد العثماني الأول 1517-1635 ) من خلال المصادر الفرنسية. المؤتمر الدولي الأول لليمن، بعنوان اليمن في العهد العثماني الأول 1517-1635). 12-15-مارس2015-أوشاك تركيا . إزمير، تركيا. أكتوبر 2016.

[3] أمة الملك اسماعيل الثور. المؤتمر الدولي الأول بعنوان " اليمن في العهد العثماني الأول 1517- 1635م) اليمن في عهد القائد ازدمير باشا، وسنان باشا. 2015 مارس. مدينةأوشا تريا.

[4] الأدهمي، مد مظفر. تاريخ إب دراسة تاريخية لمدينة إب وما حولها. كلية الآداب جامعة إب.

[5] "ولاية اليمن". المعرفة. (شوهد بتاريخ 18-11-2018) goo.gl/ehZZPM

[6]  "ثورة الزيدية ضد العثمانيين". ستار تايمز. (شوهد بتاريخ 25-11-2018). http://www.startimes.com/?t=13559526

[7] عيسى، رابحة محمد خضير. القائد العثماني سنان باشا وجهودة في استعادة اليمن وتونس 1568-1574م. مجلة جامعة تريت للعلوم، المجلد 18، العدد 1. كلية الآداب، جامعةالموصل 2011.

[8] "سنان باشا المجاهد العثماني".( شُوهد بتاريخ 12-12-2018) . http://www.awda-dawa.com/Pages/Articles/Default.aspx?id=21542

[9]  - أباظة، فاروق . الحكم العثماني في اليمن 1872-1918. المكتبة العربية. 1986.

[10] "اليمن : التاريخ الحديث" الموسوعة العربية. (شوهد بتاريخ 25-11-2018) http://arab-ency.com/detail/11293

[1] "اتفاقية دعان". المعرفة. (شوهد بتاريخ 25-11-2018). goo.gl/TVer9F

أقراء أيضاً

التعليقات

مساحة اعلانية